بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فإن العمل السياسي عند أهل البصيرة ليس بديلا من العمل على بقية المحاور الدعوية، بل هو مكمل لها وآخذ بحجزها حتى ترسو سفينة الأمة على المرفأ
لقد اشتد الخلل الذي غشى هذه الأمة إبان عصور الانحطاط وعصور الاستعمار؛ ليشمل مساحات شاسعة من بنائها العقدي والفكري والسلوكي بصورة تكاد تُخيل إلى الناظر أنه أمام مسخٍ مشوه، وأن الخَطْب أكبر من كل محاولات الترميم أو إعادة البناء.
ولا يخفى أن عملية إعادة هذه الأمة إلى الجادة تحتاج من الجهود الكثيفة والمضنية ما يقارب هذه الجهود التي بُذلت لتغريبها وكسر شوكتها وصدِّها عن السبيل، كما لا يخفى أن هذه المجهودات ليست فردية، بوسع فرد أو عدد محدود من الأفراد، ولا تجمع صغير لا ينغلق على ذاته ويتبادل مع الآخرين التُّهم والخصومات.
لقد غُزيت هذه الأمة في عقائدها
فرأينا على مستوى الدولة ونظام الحكم: جاهلية العلمانية والنظم الوضعية، ورد الشريعة الإسلامية والتحاكم إلى غير ما أنزل الله.
ورأينا على مستوى الشعائر والعبادات: جاهلية القبوريين وهم يشدُّون الرِّحال إلى القبور يدْعون أصحابها رغبًا ورهبًا، ويتبتلون لها من دون الله.
ورأينا على مستوى الولاء: جاهلية القوميات والعصبيات، وعقد الولاء والبراء على أساس الجنس واللغة والدم ونحوه، وإماتة الولاء على أساس الإسلام.
ورأينا في باب الإيمان: جرثومة الإرجاء وهي تنخر في جسد هذه الأمة، وتوطئ للطواغيت مهادًا، وتستأنس لهم القاعدة العريضة من الأمة، وتخذل عنهم كل بادرة للمقاومة بدعوى أن الإيمان والكفر من الغيوب المحجوبة في أعماق القلوب لا سبيل للاطلاع عليها ولا الحكم بها، ولا يجوز الخروج على أئمة المسلمين.
ورأينا في باب القدر جبرية بغيضة تعتذر بالقدَر عن عجزها وتخاذُلها واستنامتها لكل متكبر جبار، فصاروا امتدادًا لمن قال الله فيهم:[ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ[ [النحل: 35].
ولقد أصيبت مناهج التعليم بالجمود والعقم
فقنع الناس في دراسة الفقه بالمتون والحواشي، واختصار الشروح، وشروح المختصرات، والتخريج عليها، وهكذا، فقنع الناس بذلك عن الإحياء والتجديد واكتفوا بذلك عن النظر في الدليل والاجتهاد لما يطرأ من المشكلات.
وفي باب الأحاديث: شاعت الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وراج سوقها ولم تجد من ينقدها نقد الصيرفي الماهر كما اعتنى بذلك الأئمة الأولون.
وفي باب العلوم الكونية والإنسانية: رأينا شوب الإلحاد، وتأليه الطبيعة، وعبادة الشهوة، وتكريس الفصل بين الدين والحياة.
وفي باب الجهاد: رأينا إماتةً كاملة لهذه الفريضة، بدءًا من القول بأن الحرب في الإسلام للدفع وليست للطلب، وأن السيف لا صلة له بالدعوة، ومرورًا بلعبة المنظمات الدولية، ومنطق التطفيف الذي تتعامل به مع قضايا الامة ، وانتهاءً بالحوار بين الأديان.
وفي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: رأينا أيضًا إماتة هذه الفريضة، فقد حلت الشرعية الدستورية والقانونية محل الشرعية الإسلامية، وساد معها مبدأ: لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، فانتقلت بذلك مصدرية التجريم والعقاب من الشريعة إلى القانون، وأصبح كل من المعروف والمنكر يتمثل في موافقة القانون أو مخالفته، أما ما وراء ذلك فلا جريمة ولا عقوبة، ولما كانت هذه القوانين تُحلُّ أغلب المنكرات فقد سقطت شرعية الاحتساب عليها، وأصبح هذا العمل في دائرة الإرهاب والتطرف.
وفي مجال العمل السياسي: أُسقطت الخلافة، وأصبحت الدعوة إليها محاولة لتغيير نظام الحكم قد تصل عقوبتها إلى حدِّ الإعدام، وتم فصلُ الدولة عن الدين، وجيء بلعبة الديمقراطية؛ لتكون ملهاة ومشغلة، وليتم من خلالها تكريس العلمانية، والفصل بين الدين والحياة، ووضع مقاليد الأمور بيد المفسدين والمبطلين، وخَرس صوت الإسلام في معظم هذه المواقع أو كافة، وخلت إلا من دعاة الضلالة وأولياء الطاغوت.
وعلى مستوى الأمة : رأينا عملية تجهيلٍ بالإسلام واسعة النطاق، وإشاعة للشهوات والمنكرات، فنشأت أجيال مبتورة الصلة بأبسط حقائق الإسلام؛ تحفظ من كلمات الأغاني وأسماء المخنثين، وتعلم من أخبار الكرة والفن أضعاف أضعاف ما تحفظه أو تعلمه عن كتاب ربها وسنة نبيها .
على الصعيد الفكري: شُوِّه التاريخ الإسلامي، وسُعرت حملات على الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ورُكزت الأضواء على بعض التطبيقات الفاسدة في التاريخ القديم أو المعاصر، وقُدمت الشريعة -في النهاية- على أنها لا تملك مواجهة المشكلات المعاصرة، وأن الذين يدندنون حولها يخفون وراء ذلك شهوة التطلع إلى الحكم، والرغبة العارمة في السلطة، ولا يملكون تصورًا عمليًّا لتطبيقها، فضلاً عن حل المشكلات من خلالها.
أرأيت إلى هذا الزََّّخم الهائل من المترديات والفواجع، وهل لنا أن نتخيل في ضوء ذلك مدى ما تحتاجه عملية الإحياء والإصلاح والتجديد من عمل دائب على عديد من المرتكزات والمحاور.
إن الأمر يحتاج إلى استنفارٍ لجهود كافة المصلحين؛ للمرابطة على كل هذه الثغور، والتحرك على كل هذه المحاور.
لقد كان الواقع في أمسِّ الحاجة إلى حركة علمية تُجدد الدعوة إلى أصول أهل السنة والجماعة، وتعمل على تصحيح العقائد، ومحاربة البدع والخرافات، وإحياء السُّنة؛ تخريجًا وتحقيقًا وعلمًا وعملاً، كما تعمل على إحياء الفقه بالخروج النسبي من دائرة المتون والحواشي إلى إحياء فقه السنة، والاهتمام بالأدلة، وكسر حاجز التقليد الأعمى الذي يجعل من كلام الأئمة عيارًا على نصوص الكتاب والسنة، والذي يقول أحد رُوَّاده: كل حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.
كما كان في أمسِّ الحاجة إلى حركة سياسية تجدد الدعوة إلى قضية الخلافة، وإقامة الدولة الإسلامية، وتتصدى لهجمات التغريب والعلمانية، تُجيش الأمة كلها حول قضية تطبيق الشريعة، وتحاول أن تنفذ بصور الإسلام إلى قلب معاقل السياسة الجاهلية التي خلاَ لها الجوُّ فباض فيها الشيطان وأفرخ.
كما كان في أمس الحاجة إلى حركة جهادية تحيي ما اندثر من فريضة الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجدد الدعوة إليها في أوساط الأمة، وتؤسس قوةً؛ لحراسة الدعوة وإرهاب خصومها، وتكون نواة لجيوش الفتح القادم -بإذن الله- كما كان في أمسِّ الحاجة إلى حركة في أوساط العامة تردُّ عنهم غوائل الشهوات والشُّبهات، وتنقلهم من بيئة الغفلة إلى بيئة الذكر، ومن بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة.
أجل، لقد كان واقع الأمة في حاجة ماسَّة إلى حركة تعمل في كل هذه الاتجاهات، وتؤسس وتُبنى على كل هذه المحاور، وإذا كان الله -جل وعلا- لم يقيض للأمة أن تجتمع كلها على حركة واحدة جامعة تعمل على كل هذه المحاور في لحظة واحدة بنفس الكفاية والاقتدار، فقد هيأ لها عددًا من الحركات تمحورت كل واحدة منها حول جانب من هذه الجوانب تفوقت فيه وبرزت على أقرانها في القيام عليه والاضطلاع بأمانته.
فعرف الواقع الإسلامي الاتجاهات السلفية، وهي تُجدد الدعوة إلى أصول أهل السنة والجماعة، وتعمل على تصحيح العقائد وإحياء السنن وإماتة البدعة، وتجديد الدراسات الفقهية أو الدعوة إلى إحياء فقه السنة.
كما عرف من بين فصائله من يرابط حول قضية التشريع، ويبين صلتها بقضية التوحيد، وينفي عنها شبهات الإرجاء والتكفير، ويدعو إلى البدء بتصحيح المفاهيم، وتُركِّز على تربية القاعدة.
كما عرف الاتجاهات السياسية وهي تجدد الدعوة إلى الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، وتتصدى لهجمات التغريب والعلمانية، وتحاول أن تخترق السياج المضروب حول المعاقل السياسية؛ لتنقل إليها صوت الإسلام، وتنتزع منها ما يمكن انتزاعه من الحقوق والمكاسب.