الجينرال نائب المدير
عدد الرسائل : 197 العمر : 30 الموقع : مصر تاريخ التسجيل : 21/04/2008
| موضوع: قصة" حــــب ألـيـــم " للكاتب الروسي فلاديمير بيانكي الثلاثاء أغسطس 26, 2008 5:58 am | |
| "حـــــــــــــــــــــــــب ألـيـــــــــــــــــــــــم " منذ تعرّفت اليهما باتت افكاري منصرفة كلياً الى صديقيّ الجديدين. فساعة أنام في المساء، وساعة استيقظ في الصباح، ما كنت أفكر قط. كنت اتسكع في شوارع البلدة ومقصدي الوحيد ترصّد ما اذا كانت تلك الزمرة التي اطلق عليها يانوش صفة المجتمع الفاسد موجودة هناك بكاملها.
لقد كان ميشكا، وهو في الاجمال غلام عميق في جديته، يحمل أمائر من الرجولة الكاملة، كانت تبعث في نفسي الاحترام له وهو يتلقى هذه الهبات ببساطة، وفي كثير من الاحيان يبقيها لشقيقته. اما ناتاشا فكانت تشبك يديها كل مرة ويشع في عينيها ألق الغبطة. كان وجه الصغيرة الشاحب يصطبغ بألوان قرمزية، وتضحك فترنّ ضحكة الصغيرة في قلبينا رنين المكافأة على تضحيتنا بالسكاكر لها.
كانت ناتاشا مخلوقة نحيلة شاحبة اللون اشبه بزهرة نامية بمعزل عن اشعة الشمس، ورغم بلوغها السادسة من سنيها كانت لا تزال تمشي بخطوات غير ثابتة على ساقيها الدقيقتين والمسترخيتين مترنحةً كالنبتة الطرية. يداها رقيقتان شفافتان، ورأسها الصغير يتمايل على عنق طويلة كأنه تويج زهرة اقحوان الحقول، وعيناها ترشقان، احياناً، نظرة موسومة بالأسى ليست بنظرة طفلة. كانت ابتسامة ناتاشا على شبه شديد بابتسامة أمي في آخر ايامها، حين كانت تظل جالسة قبالة النافذة المفتوحة، والهواء يعبث بشعرها الاشقر بحيث كان يتملكني الحزن وتغرورق عيناي بالدمع.
كنت اقارن بين ناتاشا وشقيقتي. كانتا من عمر واحد، الا ان سونيا كانت عبلة كالحجلة، لدنة وطرية كالكرة، واذا هي لعبت، راحت تركض بسرعة وتضحك ضحكات رنّانة، وكانت على الدوام ترتدي ملابس جميلة، وكل يوم تضفر المربية جدائلها الكستناوية بشريط قرمزي. لا تكاد ناتاشا تركض ابداً، ونادراً ما كانت تضحك، وإن هي ضحكت كان لضحكتها رنة جرس صغير. الى ذلك، كان لباسها وسخاً وعتيقاً ولا شريط في ضفيرتها، لكن شعرها كان اطول كثيراً واغزر من شعر سونيا. كنت، على جانب كبير من الطيش والشقاوة، ويحلو لي ان أرخي العنان لنشاطي ومرحي في صحبة صديقيَّ الجديدين. وما من شك في اني كنت مهموماً بشخصية ناتاشا: - ناتاشا. لماذا لا تركضين؟ سألتها! - ليس عندي قوة. اجابت. وكانت ناتاشا تبكي حتى تمزيق نياط القلب. وبالفعل، ما إن هززتُ ناتاشا وحملتها على الركض حتى التفتت اليَّ وقد سمعت وقع خطاي من خلفها، ورفعت يديها الى رأسها كمن يودّ اتقاء ضربة، والقت عليَّ نظرة طائر وقع في الفخ، وانفجرت تعول بالبكاء، فامتلأتُ أنا حيرة وارتباكاً وقلت لميشكا: - أرأيت؟ انها لا تحب اللعب.
أجلس ميشكا ناتاشا على العشب وراح يقطف لها الازهار فكفّت عن البكاء وأخذت تتسلّى بالنباتات في هدوء وتقول شيئاً ما مخاطِبةً زهرات الاقحوان حتى اني هدأت فاضطجعت بجانب ميشكا الذي سألته: - ما سبب حالة ناتاشا هذه؟ ثم اردفت في السؤال: - ما سبب عدم مرحها؟ كانت ناتاشا تتسلّى بالازهار وهي لا تزال على الوضع الذي أجلسها فيه ميشكا. كانت حركات يديها الواهنتين بطيئة، وتحت جفنيها المسبلين تبرز زرقة عينيها العميقة على شحوب وجهها.
كان ذلك، بالنسبة اليّ، لغزاً اشد رهبة من اشباح ليل حالك. كنتُ حيال شيء رهيب ومجهول. شيء لا شكل له، عديم الرحمة، صلب، قاسٍ كالحجر، مكبّ فوق رأس الصغيرة ليمتص حمرة خديها، وبريق عينيها، وحيوية حركاتها. وبتأثير من هذا الشعور، خفّفت أنا من مرحي وطيشي، وانسجاماً مع الزرانة الهادئة التي كانت تتسم بها، كنت مع ميشكا نُجلس ناتاشا على العشب، ونقطف لها الازهار من جميع الالوان، ونلتقط لها الفراشات أو نبني فخاخاً للعصافير. كانت هذه المحادثات توثّق كل يوم عرى الصداقة المتنامية بيني وبين ميشكا برغم ما كان بين طبائعنا من تضاد شديد. كان ميشكا يواجه غلوائي الجارفة برزانة كئيبة ويبعث في نفسي الاحترام له، بسطوته وبالنبرة المستقلة التي كان يعرب فيها عن رأيه في الكبار. بالاضافة الى هذا، كان يعلّمني كثيراً من الاشياء الجديدة التي ما كنت افكر فيها حتى مجرد التفكير. سألته: - فلاديمير ابوك؟ - الأرجح انه أبي. هكذا اجاب، وعلى وجهه مسحة من تفكير كأنما لم يسبق لهذا السؤال ان خطر على باله من قبل. - ويحبك؟ - نعم يحبني. اجاب بلهجة اشد وثوقاً. يهتم بي على الدوام، واحياناً يقبّلني ويبكي. لاحظت ناتاشا ذلك فقالت: - وأنا يحبني ويبكي. فقلت أنا بلوعة وأسى: - أما أنا فلا يحبني أبي، وما قبّلني قط. انه سيئ. فرد ميشكا: - غير صحيح، غير صحيح. ابوك لا يخشى طرد غنيّ.
حملني ذلك كله على التفكير العميق. جعلني ميشكا ارى ابي في ضوء جديد لم يخطر لي قط ان انظر اليه من خلاله. ضربت اقوال ميشكا في نفسي على وتر اعتزاز الابن بأبيه، وقد طاب لي الاستماع الى الثناء على أبي، مع اهتزازات عاطفية تجاه الصغيرة ناتاشا، وتحركت في قلبي اوتار حب أليم يشوبه اليقين المرير من ان هذا الرجل الذي هو ابي لم يحبني كما أحب الآخرون اولاده.
| |
|